بعد يومين فقط من زيارتي الأولى إلى الأردن، ما تزال ذكرياتها حاضرة في ذهني. فهل كنت أعاني يوم أمس في محاولتي تسلق الوادي الصخري في البتراء كي أصل إلى الدير قبل أن تنهكني تماما شمس منتصف النهار؟ أم كان ذلك في الأسبوع الماضي؟ ومتى سأتخلص من رمال الصحراء أخيرا في حذائي؟ ثم متى سأتمكن من تناول المنسف الشهي ثانية بعد أن ذقناه جميعا في ذلك المخيم البدوي المنعزل عن الدنيا في وادي رم؟
ولكن لنبدأ من الأعلى، فقد انتهينا من محنة اجتياز الحدود الإسرائيلية الأردنية وباغتنا سريعا التغير المفاجئ في المشهد. إذ رغم العشرات القليلة من الأمتار التي تفصلنا عن الطرف الآخر فقد بدا كل شيء مختلفا، حتى تكوين الرمال. فبعد مغادرة البوابة أخيرا ظهر الناس أكثر راحة وتعاونا، ومنحتنا الرحلة بسيارة الأجرة إلى منتجع البحر الميت وقتا كافيا لتصفية أذهاننا وتقدير المشهد الجديد، فعلى طول الطريق المحاذي لنهر الأردن أخذتنا حقول الموز إلى حقول الأناناس ومن ثم إلى الصحراء ثانية عند بلوغنا البحيرة الملحية الكبيرة. وكانت كبرى المفاجآت غياب كل شيء عدا الفنادق والمنتجعات كل تلو الآخر، إذ لم يكن هنالك منزل مجاور، وحتى الشارع كان يُطلق عليه “شارع الفنادق. وظهرت بوابة المنتجع الذي من المقرر أن نقيم فيه. وكانت تقف بين الصحراء والبحر الميت قلعة فارهة لكنها معزولة. وبدت الأيام الأربعة التالية التي قضيناها هناك للاجتماع جميعا في الخارج مقطوعة عن العالم، وكأن كل شيء حولنا قد توقف. ويمكن لخدمات الفندق ذي الخمس نجوم والرفاهيات المميزة جرّ أشد المؤمنين بالتواضع إلى الخطأ والتخلي عن هيمنتهم لصالح رنات جرس الإنذار.
وبالطبع تبددت هذه المشاعر لمّا ركبنا الحافلة باتجاه الجزء التالي من رحلتنا، وهو جوهر الرحلة في الأردن. فعند مرورننا بالريف غمرنا شعور بشيء من الذنب، وقضينا طوال تلك الأيام متخدرين ومرتاحين في دلال زائف في أحضان واحة صناعية وكأنها تضربنا بالقرميد. فهذا هو الأردن بعينه: بلد مصاب بالجفاف في أغلب الأوقات، يسعى معظم أهله بلهفة لتوفير الماء، بينما يغلق الأثرياء أبراجهم العاجية على أنفسهم ويهدرون بسخافة الدلو تلو الآخر لمجرد مقدرتهم على شراء الماء. وأثناء استرسالي في هذه الأفكار مرّ السائق بأجمل المواقع السياحية، ألا وهو كهف صغير تقف بتحدّ على قمته 6 مقاعد فقط. وبرغم استمرارنا في السفر منذ ثلاثة أيام عبر المسارات الجبلية المتعرجة فقد كان مجرد الجلوس على هذه المقاعد يتيح لك مشاهدة البحر الميت. ولولا الغبار الممتد لأقسمت بأنه يمكنك لبصرك أن يبلغ فلسطين.أما محطتنا الأولى فكانت البتراء العجيبة، فعند وصولنا إلى النُزل في وقت متأخر كان الجميع متشوقين للذهاب إلى الوادي. وثبت بأن “البتراء في الليل” تجربة رائعة كما كان تبدو في الإعلان وربما أكثر من ذلك. فإذا سرت في الممر الضيق الذي تضيئه المصابيح بين المنحدرات وما من شيء حولك سوى ضوء القمر ينير دربك فسوف تتملكك الدهشة. وكان هذا الصمت الخرافي الغريب يحثنا على الاستمرار لاكتشاف المزيد. وعند وصولنا إلى الخزنة تكشّف أمامنا سحر آخر: موسيقى تقليدية حية. فقد ظلت ألحان العود الرائعة تفتننا لنصف ساعة أثناء جلوسنا واحتسائنا الشاي بهدوء أمام البناء الفاخر المنحوت في الصخر. وفي صباح اليوم التالي زرنا البتراء ثانية ولكن في ضوء النهار، ودهشت أنا شخصيا من عبقرية إنشاء كل هذه المدينة الحجرية. فما الذي حمل هذا الحالِم الأول لينحت مباني كاملة في الحجر؟ وأثناء انشغال الجميع بمشاهدة أحد أوجه المنحدرات كنت أتساءل أيضا عن قدرة هذا الشخص على تخيل قصر أو قبر في هذا المكان!
وأما المحطة الثانية فكانت وادي رم. ففي وسط البادية الأردنية تقف الخيام البدوية تخفيها الطبيعة من حولها بالكامل بانسجام رائع. ولأول مرة في حياتي أخلع حذائي وأستمتع بالسير حافي القدمين لأن أرضية الخيام نفسها كانت مغطاة بالرمال الناعمة. وكان المشهد القمري سحرا يفوق الخيال، ويحثنا على النوم في الخارج تحت السماء الحافلة بالنجوم لنتأمل في درب التبانة لساعات دون توقف. وبدا كل شيء أشبه بلوحة فنية، أو – لعشاق الخيال العلمي من أمثالي – أشبه بمشهد قطرة من الكثيب (أكاد أسمع الضاربين ينادون الديدان الرملية الضخمة!). وفي الصباح التالي استقللنا عدة سيارات جيب وانطلقنا نحو قلب الصحراء، حيث ملأت أبصارَنا آفاقٌ من العظمة وانطبعت آثار الفخامة في أذهاننا من منظر الجبال الخلابة.
ولمّا غادرنا، لم نتمالك أنفسنا من شعور الاستياء، فبمجرد تلمّسك للصحراء بندائها الأصيل والشامل واللامحدود، فإن أي بناء في المدينة سيبدو شاحبا عند المقارنة.
جورج أورفانوس